مجلة اماراباك العلمية المحكمة، المجلد 12، العدد 41 لعام 2021
المخاطر التمويلية بين الربا والغرر
توفيق الطيب البشير عبدالرحمن [1]
الملخص: تهدف هذه الورقة إلى دراسة أثر المخاطر التمويلية بين الغرر الفاحش وبين الربا في المعاملات المالية الإسلامية، وبيان الفرق بين المخاطرة المقبولة في الشريعة الإسلامية والمخاطرة الممنوعة، ويستند إطار هذه الورقة إلى مراجعة أدبية تفصيلية لنظرة الفقهاء إلى الآثار المدمرة للربا في المعاملات وعلاقته بالمخاطرة والفرق بين المخاطرة الإيجابية والمخاطرة السالبة. وعلاوة على ذلك، تبحث الورقة بين الفروق الجوهرية بين معاملات الربا ومعاملات الغرر.
الكلمات المفتاحية: الغرر، الغرر اليسير، الغرر الفاحش، الربا ، المخاطرة المقبولة، المخاطرة الممنوعة.، المخاطرة السالبة ، المخاطرة الموجبة.
Abstract: This paper aims to study the impact of financial risks between extreme Gharar and usury in Islamic financial transactions, and to clarify the difference between the acceptable risk in Islamic law and the forbidden risk. between positive risk and negative risk. Moreover, the paper examines the fundamental differences between usury and Gharar transactions.
Keywords: Gharar, Minor Gharar, Obscene Gharar, Usury, Acceptable risk, Forbidden risk, Negative risk, Positive risk.
مدخل:
تمثل المخاطر الهاجس الأكبر الحاضر في كل المعاملات المالية، وهي في الغالب الأعم سبب مباشر في حدوث التقلبات الاقتصادية والمالية التي تمضي في ازدياد بالرغم من الجهود والمحاولات المستمرة التي يبذلها أساطين المال والاقتصاد لإيجاد صيغ وعقود وسلوكيات وآليات تعمل على التقليل من هذه المخاطر، وهو حرفياً ما تقوم به الهندسة المالية بشقيها التقليدي والإسلامي.
وقد لعبت المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية دوراً بارزاً ومهماً في ابتكار أساليب وأدوات تعمل على تقليل هذه المخاطر وحصرها في الحد الأدنى. وقد أجريت عدة دراسات وعقدت ندوات وورش عمل حول المخاطر، سواء على مستوى التأصيل أو على مستوى التطبيق.
ومن المعلوم أنه لا ينفك النشاط الاقتصادي، بل الحياة كلها، من التعرض للمخاطر، فالمخاطر كالمشقة والمفسدة، فكما أنه لا يوجد عمل خال من المشقة والمفسدة، فكذلك لا يوجد عمل بشري خال من المخاطرة، غير أن المخاطر في المعاملات والتجارات إذا كانت في حدود المعقول فإنها تؤدي وظيفة ظاهرة في توجيه الحوافز ورفع الكفاءة الإنتاجية، لكن إذا زادت عن الحد المعقول فإنها تهدد استقرار الأسواق وثروات الأمة (د. صالح بن حميد ، ص 1).
والمخاطرة في الاصطلاح اللغوي تعني التغرير وقد جاءت في لسان العرب بهذا المعنى، التغرير: حمل النفس على الغرر، وقد غرر بنفسه تغريرا وتغرة كما يقال حلل تحليلا وتحلة وعلل تعليلا وتعلة، وقيل: بيع الغرر المنهي عنه ما كان له ظاهر يغر المشتري وباطن مجهول، يقال: إياك وبيع الغرر؛ قال: بيع الغرر أن يكون على غير عهدة ولا ثقة. قال الأزهري: ويدخل في بيع الغرر البيوع المجهولة التي لا يحيط بكنهها المتبايعان حتى تكون معلومة. (ابن منظور ، ج 5 ص 14).
ولأغراض بحثية صرفة يمكن تقسيم المخاطرة إلى قسمين : مخاطرة سالبة ومخاطرة موجبة، ولا نقصد بالمخاطرة السالبة والمخاطرة الموجبة، الاثار التي تترتب على حدوث حدث ما في المستقبل بمعنى أنه ممكن أن تكون هذه الآثار سالبة أو موجبة كما جاء في أدبيات إدارة المخاطر التي عرفت الخطر في أي مشروع من المشاريع بأنه حدث أو ظرف غير مؤكد يمكن أن ينتج عن حدوثه أثر سلبي أو إيجابي (بي ام بوك ، ص 127).
ولسنا نقصد أيضاً ذلك المعنى الذي عناه د. صالح بن حميد بالمخاطر السالبة والموجبة وهو أن المخاطر الموجبة ممدوحة والمخاطر السالبة مذمومة قائلا” والمخاطرة هي التعرض لاحتمال الهلاك أو التلف، وقد تكون بالنفس أو بالمال. وهي نوعان:
ممدوحة، وهي تحمل نتائج الاستثمار من ربح أو خسارة في التجارة، وهذه المخاطرة لابد منها في كل تجارة ، وهذا القسم يعبر عنه الفقهاء بالضمان، ويطلق عليه المخاطرة الإيجابية.
ومذمومة:
وهي المخاطرة التي يكون فيها تعريض المال للهلاك والتلف بأحد العقود المحرمة، كما لو كان في العقد غرر فاحش أو ميسر أو مجازفة لإهلاك المال، ويطلق على هذا النوع: المخاطرة السلبية. (د. صالح بن حميد، ص 1).
وليس كلام الدكتور صالح ببعيد عما نعنيه إلا أننا نرى أن المخاطرة الإيجابية ليست كلها ممدوحة ففيها يكون الغرر اليسير الجائز وفيها يكون الغرر الفاحش الممنوع.
والذي نعنيه هنا هو أن المخاطرة السالبة تتعلق بالربا بجميع أنواعه، والمخاطرة الموجبة تتعلق بالغرر بجميع صوره وأشكاله وهو نوعان غرر يسير وهو النطاق الذي تكون فيه المخاطرة مقبولة وغرر فاحش وتمنع فيه جميع التصرفات، لذلك لا يقصد بالمخاطرة الإيجابية أنها مخاطرة مقبولة شرعاً في جميع الأحوال، وإنما قبولها يكون في حدود، حيث إن الشريعة الإسلامية وضعت مجموعة من الضوابط لقبول المخاطرة .
والشكل التالي رقم (1)، يبين العلاقة بين المخاطرة الموجبة والمخاطرة السالبة وموضع المخاطرة المقبولة شرعاً بينهما.
الشكل رقم 1
ملاحظة: بسبب نظام التحرير على الموقع والذي لا يمكن نسخ البحث كما هو وبذلك تختفي بعض الاشكال او الصور لذلك يمكنكم مراجعة الرابط التالي حيث يكون البحث كاملا بصيغة ال ( بي دي أف ).
https://amarabac.org/wp-content/uploads/2021/09/المخاطر-التمويلية-بين-الربا-والغرر.pdf
وسنتناول هذه القضية في ثلاثة محاور: الأول يدور حول مفهوم الغرر وسبب ارتباطه بالمخاطرة الموجبة، والثاني يتناول موقف الإسلام من المخاطرة وضوابط المخاطرة المقبولة (الغرر اليسير ومخاطر التجارة)، بينما يتناول المبحث الثالث الربا وسبب ارتباطه بالمخاطرة السالبة.
المحور الأول : المخاطرة الموجبة:
إن المقصود بالمخاطرة الموجبة، هو تلك المخاطرة التي يتحملها الطرف الأول (الأكثر جدارة واحتمالاً)، كما هو الحال في عقود التأمين وفي المشتقات المالية، ولذلك فهي في مجملها تتعلق بالغرر.
أما المخاطرة السالبة فهي المخاطرة التي يتحملها الطرف الثاني (الأقل جدارة واحتمالاً) وذلك بسبب الحاجة والاضطرار ، كما هو الحال في المعاملات الربوية.
ولذلك فالفرق بين الربا والغرر يكمن في علاقة المخاطرة بالملكية حيث إن الربا يفصل الملكية عن المخاطرة، بينما الغرر يفصل المخاطرة عن الملكية .
الغرر وأثره في المعاملات المالية:
ينصرف مفهوم الغرر في الشريعة الإسلامية إلى كل مجهول العاقبة في البيع والشراء وقد عرفه الفقهاء القدامي من المالكية والشافعية والحنابلة تعريفات كثيرة متفاوتة تدور كلها حول ثلاثة مرتكزات أساسية هي:
الأول : أن الغرر يقوم على جهالة المبيع كما جاء في تعريف السرخسي والزيلعي من الحنفية ، والشاذلي من المالكية، وهو رأي الظاهرية.
الثاني : أن الغرر يقوم على الشك وهذا تعريف الكاساني وابن عابدين من الحنفية ، وابن عرفة من المالكية.
والثالث: أن الغرر هو ما كان مجهول أو مستور العاقبة ,اغلب الفقهاء على ذلك (د. يسن درادكة، ص 78).
وجاء في إحدى تعريفات الغرر بأنه ما تردد بين أمرين أغلبهما أخوفهما والأخوف هو الغالب، ويؤثر الغرر في كثير من المعاملات المستجدة لاشتمالها عليه، ومنها: عقود الخيارات، والمستقبليات، وعقود التأمين التجاري، وقد حرمت الشريعة الإسلامية الغراء الغرر تحقيقاً لمصلحة الأمة وبما يحقق مقاصد الشريعة الإسلامية من خلال حفظ التوازن الاقتصادي وفقا لمبدأ الغنم والغرم (د. إبراهيم عبادة و د. عبد الله ربابعة، ص2).
وقسم العلماء الغرر إلى ثلاثة أقسام غرر يسير وغرر كثير وغرر متوسط اختلفوا في الحاقه باليسير أم الكثير (د. يسن درادكة، ص 97). وهو بهذه المنازل الثلاثة يمثل المخاطرة الموجبة التي تشتمل على المخاطرة المقبولة (الغرر اليسير)، والغرر الفاحش، والغرر المتوسط الذي يكون منزلة بين المنزلتين.
وللتفريق بين الغرر المنهي عنه والغرر المغتفر فيه في عقود المعاوضات المالية أصدرت هيئة المحاسبة والمراجعة (الأيوفي) معياراً أسمته ضابط الغرر المفسد للمعاملات المالية، ووضعت له شروطاً أربعة جاءت على النحو التالي (الأيوفي ، معيار 31):
1 − أن يكون الغرر في عقد معاوضة مالية، أو ما بمعناها وهذا يعني أستثناء الغرر الذي يدخل في عقود التبرعات مثل الهبة والوصية.
2 − أن يكون الغرر كثيراً وهذا يستثني الغرر اليسير والمتوسط.
3 − أن يكون الغرر في المعقود عليه أصالة.
4 − أن لا تدعو الحاجة المعتبرة شرعاً إلى العقد المشتمل على غرر.
والغرر المنهي عنه له صور عديدة منها ما يكون مجهول العاقبة كبيع الطير في الهواء والسمك في الماء ومنها ما يرتبط بعد القدرة على التسليم كالبعير الشاردوالفرس النافر ولا يستثنى من صوره المحرمة إلا ما يدخل في المبيع تبعًا، بحيث لو أفرد، لم يصح بيعه كبيع أساس البناء تبعًا للبناء، واللبن في الضرع تبعًا للدابة. أو ما يتسامح بمثله عادة، إما لحقارته، أو للمشقة في تمييزه أو تعيينه، ومقدار الماء المستعمل، وكالشرب من الماء المحرز، وكالجبة المحشوة قطنًا وهو ما يعرف عند الفقهاء بالغرر اليسير المغتفر (محمد عطية ، ص 2).
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر بلفظه كما جاء في حديث أبي هريرة أنه قال : نَهَى رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ عن بَيْعِ الحَصَاةِ، وَعَنْ بَيْعِ الغَرَرِ. (صحيح مسلم ، ح 1513) كما أنه صلى الله عليه وسلم، نهى عن بيوع كثيرة انطوت على الغرر كبيع الملامسة والمنابذة وحبل الحبلة، والجنين في بطن أمه، والثمار قبل أن يبدو صلاحها، وما إلى ذلك من الصور التي يدخلها الغرر ويفسدها بجهالة النتيجة التي يتوقعها المشتري ويجد غيرها أو ربما لا يجدها البتة.
والإسلام هو دين الحق ودين العدل ودين الرحمة فلم يترك لأحد باباً يؤدي به إلى الظلم أو الجهالة إلا أغلقه، ونهى المولى عز وجل عن جميع أنواع الظلم في آيات قرآنية كثيرة جداً بلغت في مجملها حوالي 300 آية ، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الظلم في مواضع كثيرة كما نهى عليه الصلاة والسلام عن التجاوز والتعدي وأكل أموال الناس بالباطل وغير ذلك مما يدخل بشكل أو بآخر إما في باب الربا أو باب الغرر. ويقول أهل العلم أن أصول المبادلات المحرمة لا تخرج من هذين البابين حيث قرر العلماء أن معظم المنهيات الشرعية في المعاملات الاختيارية إنما ترجع إلى الربا أو الغرر، وقالوا إن الربا يرجع إلى الظلم والغرر يرجع إلى الجهل، وهذان هما جذور الانحراف في السلوك البشري وجمع بينهما قوله جل وعلا إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا “الاحزاب “72 (د. السويلم، ص 117).
وصور المعاملات المالية المعاصرة التي تنطوي على الغرر كثيرة، ولعل من أهمها المشتقات بجميع أنواعها وعقود التأمين التجاري.
المشتقات المالية:
المشتقات المالية عبارة عن عقود مالية ترتبط قيمتها بقيمة الأصل الأساسي. فهي أدوات مالية معقدة تستخدم لأغراض مختلفة على نطاق واسع للمضاربة وتحقيق عوائد محتملة جيدة، بما في ذلك التحوط والوصول إلى أصول أو أسواق إضافية. وهي على أربعة أنواع رئيسة :
عقود الخيارات Option Contracts
العقود المستقبلية Forward Contracts
العقود الآجلة Future Contracts
عقود المبادلات Swap Contracts
والمشتقات هي مبادلات صفرية يتم فيها حصول ربح أحد الطرفين على حساب خسارة الطرف الآخر سواء كان هذا الطرف بائعاً أم مشترياً فما يفقده الخاسر يذهب ربحاً للرابح. ويقول د. السويلم: ” تكاد تتفق وجهات نظر المختصين من الفريقين أن المشتقات بطبيعتها مبادلة صفرية حيث ما يربحه أحد الطرفين هو ما يخسره الطرف الآخر. على سبيل المثال، يصرح آلان جرينسبان، الرئيس السابق لمجلس الاحتياط الفيدرالي الأمريكي، وأحد أبرز المؤيدين للمشتقات بقوله أن المشتقات من حيث العموم لعبة صفرية حيث تعد الخسارة في القيمة السوقية لأحد الطرفين هي الربح للطرف الأخر (د. السويلم ، ص 30).
وبالتالي، ففي الغالب لا يمكن اعتبار المشتقات مبادلات حقيقية لأنها لا تتعامل مع الأصل محل الاشتقاق بل هي في الغالب تسوية لفروقات الأسعار عند انتهاء العقد، ولذلك فهي تعرف في هيئة الخدمات المالية البريطانية بأنها عقود على الفروقات CDF )د. السويلم ، ص 30).
وقد حرمت الشريعة الإسلامية العقود الوهمية القائمة على الجهالة والغرر كالمشتقات المالية وصناديق التحوط، وما قد تسببه من ارتفاع وتضخم للأسعار نتيجة تأثيرها على زيادة عرض النقود، كما أنها تسبب الانهيار السريع للمؤسسات المالية التى تتعامل بها، وذلك لعموم الأدلة التي حرمت بيع الديون، ومنها:” أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الكالئ بالكالئ، وهو بيع الدين بالدين ( د. عمر عبابنة ، ص 10).
وبنظرة فاحصة إلى عقود المشتقات بجميع أنواعها، يتبين أن الباعث عليها ابتداء هو الربح السريع القائم على المضاربة على فروق الأسعار، وإن اختلفت المسميات، فالقصد والغاية منها هو الحصول على أكبر قدر ممكن من الربح وبأسرع وقت، وبأقل مخاطرة، ومن المعلوم أن هذا الربح هو لطرف دون آخر، وهذا من الظلم الذي ترفضه الشريعة السمحة، ووجه الظلم حرمان أحد طرفي العقد منه نهائياً لأن المبادلة – كما أسلفنا- صفرية. ومن المعلوم أن كافة العقود المتعارف عليها شرعاً وقانوناً غايتها تحقيق مصالح متبادلة للطرفين، وشبه متوازنة من حيث الربح والخسارة حتى ولو خسر أحدهم وربح الآخر، لذلك فإن العقد الذي يترتب على انتفاع أحد طرفيه مضرة الطرف الآخر هو مخالف لكافة العقود المتعارف عليها شرعاً وقانوناً، ولا يشبه في ذلك أو لا يماثله من كل وجه سوى ما كان على سبيل القمار. فالباعث إذن هو المضاربة على فروق الأسعار، وأما مآل هذه العقود فيتمثل فيما تسببه هذه العقود من آثار سلبية، تعود على الأسواق المالية بشكل عام بالضرر والخطر. ولإثبات هذا التقييم نبين الآثار الاقتصادية السلبية التي تحدثها هذه العقود في الأسواق المالية. (د. محمود مهيدات ، ص 10).
ويرى د. مهيدات أن الأصل في عقود المعاوضات جميعها هو العدل، وعقود الخيارات ليست كذلك، إنما هي ظلم لأحد العاقدين، ويكمن هذا الظلم في إعطاء أحدهما فرصة تحقيق الربح على حساب الطرف الآخر، وذلك من خلال ما تمنحه هذه العقود للمستثمرين من فرصة استشراف أسعار الأوراق المالية، ومن ثم مقارنتها بأسعار التعاقد، ليقرر بعدها هل ينفذ العقد أم يفسخه، وهل يستزيد من البيع أو الشراء أم يكتفي بالكمية المتعاقد عليها، والنتائج التي ستترتب على هذه المناورات . وعليه فيمكن القول بإن عقود الخيارات المالية المتداولة في الأسواق المالية بصورتها الحالية، ليس لها قيمة اقتصادية حقيقية في ذاتها، وبالتالي فإن جميع الآثار الاقتصادية لعقود الخيارات المالية التي يروج لها المستثمرون، ليست آثارا اقتصادية معتبرة شرعاً، إنما هي آثار وهمية يستدرج بها أصحاب الأموال ليضخوا أموالهم في السوق، ليقتنصها منهم المضاربون على فروق الأسعار، ودليل هذا أن الواقع قد اثبت أن ما نسبته 98% من هذه العقود لا يجري تنفيذها، وهذا دليل آخر يثبت أن هذه العقود ليس قيمة اقتصادية واضحة (د. محمود مهيدات ، ص 10).
التأمين التجاري:
ومن العقود التي تنطوي على الغرر عقد التأمين التجاري فهو الآخر عبارة عن مبادلة صفرية إذا ربحت شركة التأمين القسط المدفوع من عميلها لعدم وقوع حادث يغطيه التأمين خلال الفترة المحددة بالعقد فهذا يعني أن المستأمن قد مني بخسارة تعادل نفس الربح الذي حصلت عليه الشركة.
والتأمين التجاري هو تأمين تتفق فيه شركة مع عملائها على تعويضهم عن الأخطار المؤمن ضدها نظير دفع كل منهم قسطاً ثابتاً، أي قسطاً يتحدد مقداره وقت العقد، فإن لم يقع الحادث فقد المستأمن حقه في الأقساط وصارت حقاً للمؤمن(د. أحمد عرفة، ص4).
وتسعى الشركة في هذا التأمين إلى الربح، فتحاول أن تضع نظاماً تفيض فيه الأقساط عن مبالغ التأمين لتظفر بربح وفير، والنظام الذي تضعه شركة التأمين للتعاقد في هذه الصورة يقوم في الواقع على أساس تجاري (د. أحمد عرفة، ص4).
وهذا النوع من التأمين التجاري هو السائد، بل هو الذي تنصرف إليه كلمة التأمين عند إطلاقها، وفي هذا النوع تكون شركة التأمين مستقلة تمام الاستقلال عن المؤمن لهم، وهي التي تتعاقد معهم، فالمساهمون في هذه الشركات هم المؤمنون، والعملاء الذين يبرمون عقود التأمين مع هذه الشركة هم المؤمن لهم، ومصالح الطائفتين في علاقاتهم تختلف وتتعارض.
وقد اختلف الفقهاء المعاصرون في تكييف عقد التأمين التجاري فمنهم من أجازه ومنهم من حرمه ، فأما الذين أجازوه فيرون أنه يحقق مصلحة للطرفين، وأنه لا يوجد نص شرعي يحرمه فهو من العقود الحديثة، وأما الذين منعوه فيرون أنه ضرب من ضروب الغرر الفاحش (د. محمد آل الشيخ، ص 281).
وقد صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10 – 16 ربيع الآخر 1406هـ، الموافق 22 – 28 كانون الأول ( ديسمبر) 1985م، بثلاث موجهات على النحو التالي :
أولاً: أن عقد التأمين التجاري ذي القسط الثابت الذي تتعامل به شركات التأمين التجاري عقد فيه غرر كبير مفسد للعقد. ولذا فهو حرام شرعاً.
ثانياً: أن العقد البديل الذي يحترم أصول التعامل الإسلامي هو عقد التأمين التعاوني القائم على أساس التبرع والتعاون، وكذلك الحال بالنسبة لإعادة التأمين القائم على أساس التأمين التعاوني.
ثالثاً: دعوة الدول الإسلامية للعمل على إقامة مؤسسات التأمين التعاوني وكذلك مؤسسات تعاونية لإعادة التأمين، حتى يتحرر الاقتصاد الإسلامي من الاستغلال ومن مخالفة النظام الذي يرضاه الله لهذه الأمة.(مجمع الفقه الإسلامي ، قرار رقم 9-9/2).
ومهما يكن من اختلاف أو اتفاق حول مبررات مشروعية عقد التأمين التجاري، فإنه لا يخرج عن كونه مبادلة صفرية سواءً تم تعويض المستأمن أم لم يتم . فإذا افترضنا أن أحد عملاء شركة التأمين قانم بتأمين سيارته ودفع قسطاً قدره 3 آلاف ريال سعودي لشركة التأمين، ولم يتعرض لأي حادث طوال فترة سريان العقد، ففي هذه الحالة تكون شركة التأمين قد ربحت جميع مبلغ القسط، ويكون العميل قد خسر نفس المبلغ، وإذا افترضنا أن العميل قد تعرض لحادث كلفه 10 آلاف ريال، وتكفلت شركة التأمين بسداده ففي هذه الحالة يكون العميل قد ربح 7 آلاف، والشركة خسرت نفس المبلغ، والشكل التالي رقم (2) يبين أن المبادلة صفرية في الحالتين.
الشكل رقم 2
ملاحظة: بسبب نظام التحرير على الموقع والذي لا يمكن نسخ البحث كما هو وبذلك تختفي بعض الاشكال او الصور لذلك يمكنكم مراجعة الرابط التالي حيث يكون البحث كاملا بصيغة ال ( بي دي أف ).
https://amarabac.org/wp-content/uploads/2021/09/المخاطر-التمويلية-بين-الربا-والغرر.pdf
وقد يقول قائل: وهذا الأمر ينسحب أيضاً على شركة التأمين التعاونية ولا فرق بين الحالتين، ولكن الفرق حقيقة يكمن في أسلوب الإرجاع الذي تقوم به شركة التأمين التعاوني في آخر العام، حيث تكون هناك نسبة من الربح للمستأمن ما يجعل انتفاع الطرفين أمراً جلياً، وأن المبادلة عند الإرجاع لا تكون صفرية، أما في شركات التأمين التجاري، فإن جميع الأرباح المتحصل عليها من أعمال التأمين تكون للشركة فقط .
المحور الثاني : المخاطرة المقبولة :
المخاطرة المقبولة هي الجزء المحمود في المخاطرة الموجبة، وكما أسلفنا أنها تمثل النطاق الذي تقدم فيه السلع والخدمات في إطار الشريعة الإسلامية، وهي تمثل الجزء السفلي من مخطط المخاطرة الموجبة، وما زاد يدخل في نطاق الغرر الفاحش، وأما الجزء السالب من المخاطرة فيمثل الربا بجميع صوره وأشكاله وهو مذموم كله.
ومن هنا يتبين أن المخاطرة الموجبة تنقسم إلى قسمين: قسم جائز شرعاً، وهو الغرر اليسير، وهو ما لا يمكن تداركه في المعاملات، ويدخل فيه مخاطر التجارة المعتادة كتلف البضائع ووهلاك بعض الديون وتقلبات الأسعار وخلافه، وقسم منهي عنه شرعاً، وهو الجزء العلوي الذي يمثل الغرر الفاحش الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك كما جاء تبيانه في الشكل رقم 1 أعلاه.
وعليه، فإن المخاطرة المقبولة هي مخاطرة التجارة وهي كل مخاطرة تتعلق بأعمال البيع والشراء والاستثمار والإيجار ونحوه، وهي بعبارة أخرى تعني تحمل نتائج الاستثمار ربحاً أو خسارة، أو تحمل نتائج العملية التجارية أو المضاربة، ربحاً أو خسارة، وهو ما يعني التقابل والتلازم بين المغانم والمغارم (د. عدنان عويضة ، ص 30).
وفي الرقابة المصرفية الحديثة هناك مستوى من المخاطر يمكن للمؤسسة المالية أن تتحمله في سبيل تحقيق أهدافها الاستراتيجية تسمى بالمستوى المقبول من المخاطر Risk Appetite (زياد كوكش ص 1).
وفي الشريعة الإسلامية هناك مستوى من المخاطر يطلق عليه المخاطرة المقبولة، وهو ما يسميه الفقهاء بالغرر المغتفر، ووضعوا لها شروطاً وضوابط مهمة نجملها في الآتي:
- المخاطرة التي لا يمكن التحرز منها، فهي تابعة للنشاط الاقتصادي ومتضمنة فيه بحيث يتعذر تحقيق مصلحة التبادل دون احتمال وقوع هذه المخاطر.
- أن تكون يسيرة، وهذا يعني أن تكون احتمالات الخسارة قليلة أو منخفضة، وقد نص الفقهاء على أن الغرر الممنوع هو ما كان احتمال السلامة منه أقل من احتمال الهلاك، أو هو ما استوى فيه طرف الوجود والعدم أو كما قال أهل العلم ما تردد بين أمرين أغلبهما أخوفهما.
- ألا تكون مقصودة، وإنما تنبثق من النشاط المولد للثروة كأن تقع الخسارة بسبب هلاك غير متوقع للبضاعة أو انخفاض مفاجئ في الأسعار بالنسبة للبائع ونحوه. (د. السويلم ، ص 68).
وعليه فإن المخاطرة الموجبة تتأرجح بين المخاطرة المقبولة في حدها الأدنى وهي الحالة التي يتحمل فيها المخاطرة من يكتسب العائد على قول النبي صلى الله عليه وسلم: الخراج بالضمان (صحيح ابن حبان ، ح رقم 4927)، أي أن من يغنم من شيء فعليه ضمانه، أي تحمل مخاطرته، والمخاطرة الممنوعة في حدها الأعلى وهي التي يتحمل فيها الطرف الأكثر جدارة الخسارة إذا وقعت في جميع الأحوال، وذلك كما هو الحال في المشتقات وعقود التأمين التجاري.
المحور الثالث : المخاطرة السالبة:
لقد تقدم فيما مضى أن المقصود بالمخاطرة السالبة هو أن يكون الطرف الأقل جدارة واحتمالاً هو من يتحمل المخاطرة، وهذا لا يكون إلا في الربا الذي يتحمل فيه المدين المستقرض تبعات المخاطرة بكاملها ويتمتع المرابي الدائن بكل الضمانات التي تقيه من وقوع المخاطر.
الربا وأثره على المعاملات المالية:
الربا أحد الكبائر السبع الموبقات المهلكات (صحيح البخاري، ح رقم 2766)، وقد ورد فيه تحريم قطعي الدلالة في القرآن الكريم ، وفي السنة والإجماع، ولم يقف تحريم الربا على الإسلام فقط، بل حرم في كل الشرائع والأديان السماوية (أبوبكر نواصره ، ص 16-20).
وقد يختلط أمر الربا على كثير من الناس، فهو من أشكل أبواب الفقه كما قال العلامة ابن كثير(ابن كثير، 1/327)، ويقول الإمام الشاطبي يبقى النظر: لِمَ جاز مثل هذا في غير النقدين والمطعومات ولم يجز فيهما؟ الربا محل نظر يخفى وجهه على المجتهدين، وهو من أخفى الأمور التي لم يتضح معناها إلى اليوم (الشاطبي، 4/24). ولذلك قد يندهش بعض المتتبعين لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم حينما يجدون أنه أجاز بيع الشاة بالشاتين يداً بيد (اتحاف الخيرة المهرة، ص 3/398)، والفرس بالأفراس، والنجيبة بالإبل(المحلى ، 8/478)، بينما أنه صلى الله عليه وسلم لم يجز بيع صاع من التمر الجيد بصاعين من التمر الردئ (صحيح البخاري ، 2302/3).
وبمناظرة هذه الأصناف الجائزة والممنوعة تتضح الصورة شيئاً فشيئاً، ذلك أن الربا لا يجري في كل الأموال بل يجري في أموال معينة، ولا يجري في غيرها، وهي ما أطلق عليه الفقهاء بالأموال الربوية، وقد حدد الفقهاء هذه الأموال من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، المشهور الذي رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال : الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد، أو استزاد، فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء.(صحيح مسلم، ح رقم 1584).
وذهب أكثر أهل العلم إلى أن الربا يجري في هذه الأصناف الستة، وما يقوم مقامها في العلة، والتي حددها أكثر أهل العلم بالثمنية للذهب والفضة، والكيل والوزن للأصناف الأخرى على خلاف بينهم في التفاصيل، وزاد المالكية ربط هذه الأصناف الأربعة بالطعام، وقد ورد في هذا الباب حديث رواه سعيد بن المسيب وضعفه الألباني، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا ربا إلا فيما كيل أو وزن مما يؤكل أو يشرب (إرواء الغليل ، 1343). ولابد فيها من اتحاد الزمن والنوع والمقدار (د. رفيق المصري ، ص 79 ).
والربا أنواع: ربا قروض، وربا بيوع، ويطلق على الأول ربا النسيئة، وهو كذلك نوعان: ربا الديون وهو أسوأ أنواع الربا على الإطلاق، ويسمى ربا الجاهلية (ربا الفوائد المركبة)، وربا القروض( ربا الفائدة البسيطة)، وهو الربا الذي تمارسه البنوك فيما يعرف بالقروض قصيرة الأجل .
أما ربا البيوع فهو الآخر على قسمين ربا الفضل، وربا النساء ، حيث يتعلق الأول بمد الأجل بلا زيادة في في المقدار، والثاني بزيادة المقدار دون مد في الأجل.
فإذا تمت مبادلة قمح بقمح اشترط التقابض والتماثل (الأجل والمقدار)، وإذا تمت مبادلة قمح بشعير اشترط التقابض دون التماثل (الأجل دون المقدار) ، أما إذا تمت مبادلة ذهب بقمح أو شعير أو تمر فهنا لا يشترط التقابض ولا التماثل ، ولذلك يفسر العلماء أختلاف الأصناف الواردة في الحديث ربا البيوع بأنه يحتمل معنيين : اختلاف صنف عن صنف في فئة ربوية واحدة كالذهب والفضة، وكالشعير والتمر، واختلاف صنف من فئة عن صنف من الفئة الأخرى كالذهب والشعير أو الفضة والتمر فالاختلاف الأول يسمح بالتفاضل دون النساء، والاختلاف الثاني يسمح بالتفاضل والنساء(د. رفيق المصري، ص 81).
وليس من المتصور أن يتم استبدال قمح مثلا بقمح مثله في المقدار والنوع والجودة والزمن، لأن ذلك لا يحقق منفعة لأي من الطرفين، وإنما المقصود هو أن يكون أحد الصنفين أجود من الصنف الثاني كمبادلة قمح يمني مثلا بقمح استرالي، أو تمر سكري بتمر صقعي. هنا تكون المخاطرة أكثر لمن يأخد الصنف الأقل جودة. ولذلك يحاول الطرف ذو الصنف الأجود أن يأخذ مقدارين أو أكثر من الصنف الأقل جودة ليحمل المخاطرة للطرف الآخر، وهنا يدخل الربا ويقع الظلم، لأن المبادلة ليست متكافئة ولا يمكن أن تتم مكافأتها إلا بإحدى حالتين : إما أن يرضى صاحب الصنف الأجود بالصنف الأقل جودة بنفس المقدار وفي نفس الوقت دون اعتبار للجودة، وإما أن يوسط الصنفين نقوداً فيبيع صنفه الجيد بالنقود، ثم يشتري بالنقود ما يكافئها من الصنف الأقل جودة. وهذا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبوسعيد الخدري، وأبوهريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر، فجاءهم بتمر جنيب، فقال: أكل تمر خيبر هكذا، فقال: إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال: لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً، وقال في الميزان مثل ذلك.(صحيح البخاري ، ح رقم 2302).
وتوسيط النقود هو الحل الأمثل، لأن النقود تحدث المكافأة في طرفي البيع، حيث إن كل سلعة لها ثمن معلوم، وعليه تنتفي المخاطرة السالبة، وتبقى المخاطرة المقبولة المرتبطة بخراج السلعة بعد الشراء ولحين البيع أو الاستهلاك.
وينسحب هذا أيضاً على الذهب والفضة لأن أنواع الذهب وأعيرته كثيرة فهناك الذهب الحجازي والذهب الكويتي والذهب البحريني، وهكذا. وهناك من الذهب عيار 24 وهناك عيار 21 وعيار 18، وهكذا، فإذا وقعت المبادلة المباشرة فلابد من أن يكون مثلاً بمثل يداً بيد سواءً بسواء، دون نظر إلى العيار أو بلد الصنع، فالذهب بالذهب كما جاء في الحديث، ولكن توسيط النقود هو الحل، إذ يقوم البائع ببيع ذهبه من عيار 24 بقيمته السوقية، ومن ثم يشتري الذهب من عيار 18 بقيمته السوقية، وهنا تتم المعاملة بعقدين منفصلين وبمخاطرة مقبولة ، على النحو التالي :
الشكل رقم 3
ملاحظة: بسبب نظام التحرير على الموقع والذي لا يمكن نسخ البحث كما هو وبذلك تختفي بعض الاشكال او الصور لذلك يمكنكم مراجعة الرابط التالي حيث يكون البحث كاملا بصيغة ال ( بي دي أف ).
https://amarabac.org/wp-content/uploads/2021/09/المخاطر-التمويلية-بين-الربا-والغرر.pdf
ولا شك أن للربا أثراً سلبياً ومدمراً على النشاط الاقتصادي، لأنه عبء على المستثمر وخاصة ربا النسيئة، لأن المقرض لا يتحمل شيئاً من المخاطرة، بل يضع كلما يمكنه من استرداد أمواله بفوائدها من ضمانات ودراسة لأهلية المقترض ومعرفة ملاءته المالية وقدرته على السداد وعدم مماطلته في دفع المستحقات مع طلب الرهن العقاري أو الأسهم بما يعادل أو يفوق المبلغ المطلوب . أما المستثمر فهو الذي يضيف إلى مخاطره التجارية العامة من حدوث ظروف تتعلق بأخطاء الدراسات أو الإدارة أو حدوث ظروف طارئة لم تكن في حسبانه من ظروف اجتماعية أو سلوكية أو اقتصادية أو غيرها وكل ما من شأنه أن يؤدي إلى الخسارة أو فوات بعض الربح، فإنه يتأثر كذلك ابتداء بالفوائد التي تفرض على قرضه، وهي يقينية، بينما تكون كل الخسائر المتوقعة الأخرى وحتى الأرباح المتوقعة ظنية.
فلو فرضنا أن المستثمر اقترض مائة ألف دولار من البنك بسعر فائدة 10%، لمدة سنة وفي نهاية السنة كان معدل العائد الداخلي لمشروعه IRR في حدود 15%، فهذا يعني أن أرباحه الصافية في حدود 5% فقط، وهي التي تكون بين 10% و15%، والتي يعبر عنها بالمثلث ACD ، وهو ما يعادل 33% فقط من إجمالي صافي القيمة الحالية NPV، علماً بأن صافي الأرباح في حالة أن معدل الفائدة صفراً كما هو الحال في النظام الإسلامي، سيكون كما يمثله المثلث ABD في الشكل رقم 4 التالي ، أي 15% كاملة. هذا مع التفاؤل أما إذا كان معدل العائد الداخلي 10% فقط فهذا يعني أن جميع الأرباح الصافية ستذهب لسداد الفائدة، وعندها ستكون صافي القيمة الحالية صفراً، وسيصبح المشروع في مهب الريح، ومع ذلك فهناك احتمال أسوأ، وهو أن ينخفص معدل العائد الداخلي عن معدل الفائدة، وعندها سيكون المشروع خاسراً تماماً، وعلى المستثمر إن أصر على قيام المشروع أن يدفع جزءاً من الفائدة من حسابه الخاص، مع تحمل كافة خسائر المشروع، ولذلك تسمى المخاطرة هنا بالسالبة لأن الطرف الأقل اقتداراً وهو المستثمر المقترض، هو الذي يتحمل المخاطرة، بينما المقرض الدائن (المرابي) لن يتأثر بما يصيب المشروع من خسائر وفي جميع الأحول سيعيد قرضه كاملاً مضافاً إليه ما تم الاتفاق بينه وبين الطرف الآخر من فوائد . والشكل رقم 4 التالي يبين علاقة صافي الأرباح التي يمكن حصول المستثمر عليها بمعدل الفائدة.
الشكل رقم 4
ملاحظة: بسبب نظام التحرير على الموقع والذي لا يمكن نسخ البحث كما هو وبذلك تختفي بعض الاشكال او الصور لذلك يمكنكم مراجعة الرابط التالي حيث يكون البحث كاملا بصيغة ال ( بي دي أف ).
https://amarabac.org/wp-content/uploads/2021/09/المخاطر-التمويلية-بين-الربا-والغرر.pdf
ولذلك وضع الإسلام حلولاً كثيرة بديلة لنظام الربا، وكلها تقوم على تحمل الطرفين للخسائر المحتملة بحسب طبيعة كل عقد، مقابل حصولهما على الأرباح المحتملة مثل المشاركة والمضاربة والاستصناع والسلم والايجارة وغيرها من العقود الشرعية.
وحتى العقود التي تكون فيها المبادلة غير صفرية، أي المبادلات التي تتضمن نتيجة إيجابية وأخرى صفرية، كعقد المزارعة مثلاً، فإن جوازها ارتبط في الشريعة الإسلامية بمدى ترجيح الجانب الإيجابي فيها على الجانب السلبي، حيث من الجائز جداً أن يغلب انتفاع الطرفين في المعاملة بمعنى أن صاحب الأرض ومن يقوم بزراعتها يجنيان أرباحاً، وإن تفاوتت نسبها، وأن الحالة التي يمكن فيها للمزارع أن يقع في خسارة لم تكن متيقنة بل ترجيح الربح هو الأظهر، والدليل على ذلك عدم معقولية قبول المزارع الاستثمار في أي مشروع إذا كانت الخسارة فيه متيقنة.
الخلاصة:
المخاطر أمر قدري مثلها ومثل المصائب التي تصيب المؤمن في بدنه أو ماله، وهي تابعة لأي نشاط يقوم به المرء، سواء كان نشاطاً خاصاً أم عاماً، وهي محيطة بالإنسان حيثما كان فمنها الحوادث المرورية، ومنها الزلازل، ومنها الفيضانات، ومنها الحرائق ومنها الحروب ومنها الأمراض، وهكذا، ولكن المقصود بالمخاطرة هنا المخاطر التجارية التي تتعلق بوقوع الخسارة في عقود المعاوضات، فالأمر هنا يختلف بعض الشيء لأن مخاطر التجارة بعضها تابع للنشاط الاقتصادي، ولا يمكن استقلالها عنه أو انفصالها منه، وبعضها ناتج من التهور أو المغامرة أو المضاربة بالأموال سواء كان ذلك وفق دراسة أو بغير دراسة.
والشريعة الإسلامية لم تأمر الناس بالتعرض للمخاطر، بل إن الله عز وجل حذر من الوقوع في المهالك في قوله “وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة” (البقرة 195)، وأمر بتوخي الحذر فقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم” (النساء 71) ، وهي معاني عظيمة ذات دلالات عامة، وإن جاءت في سياقات خاصة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية (صحيح البخاري ، ح رقم 7327)، ولكن هناك قسم من المخاطر لا يملك الإنسان دفعه عن نفسه، وهو المخاطرة المقبولة شرعاً، لأنها تابعة للنشاط التجاري، وهي ذات فوائد محفزة للإنتاج والنمو وتشجيع المستثمرين على الاجتهاد والتحوط اللازم.
والمخاطر التابعة للنشاط الاقتصادي مثلها مثل المشقة فلا تكون مقصودة في ذاتها، ولكن العمل لا يتحقق إلا بها زيادة ونقصاناً، وهي جائزة لأن الله جلت قدرته لا يكلف نفساً إلا وسعها، وهي التي تكون بين المخاطر السالبة (الربا) والمخاطر الموجبة الزائدة عن الحد (الغرر). والناس فيهما على قسمين : قسم مغامر يبحث عن المخاطرة على أساس أن عوائدها مرتفعة وفق القاعدة الشهيرة High risk high reward ، وقسم يكره المخاطرة ويتفادى الوقوع فيها حيث يسمى الأول بالمستثمر المضارب ويسمى الآخر بالمستثمر المتحفظ. وعلى سبيل المثال فإن الذي يؤمن على سيارته من الحوادث هو الذي يتحاشى المخاطر رغم علمه باحتمالية عدم وقوعها، وأما الذي يشتري تذكرة يانصيب فهو الذي يقصد المخاطر رغم احتمالية وقوعها .
لذلك فالشريعة الإسلامية تدعو إلى الاعتدال والقصد وتحذر من الغلو والإسراف والإفراط، وتأمر بكل ما يجلب المصالح ويدرأ المفاسد، بل إن القاعدة الفقهية العظيمة تقول: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
من هذا المنطلق فقد جاء تحريم الربا وتحريم الغرر، فتحريم الربا يستلزم تحمل الحد الأدنى من المخاطر التي لا يمكن أن ينفك عنها النشاط الاقتصادي، ولا يتحقق النمو والازدهار إلا بها ، وتحريم الميسر والغرر يستلزم استبعاد المخاطر الضارة بالنشاط الاقتصادي والفرق بين هذين النوعين يتركز حول الملكية ، فالضمان الذي اشترطه النبي صلى الله عليه وسلم يتعلق بالملكية، وهو يعمل على تحفيز النمو للمال، ويعمل على حفظه من الضياع والتهور، بينما أن الغرر هو تحمل مخاطر مستقلة من الملكية. (د. السويلم ، ص 64).
وبناء على هذا فإن المخاطر المقبولة هي الخيار المعافى بين تحمل المخاطر بلا احتراس كما هو الحال في الغرر، وعدم تحمل المخاطر بلا رأفة كما هو الحال في الربا.
المراجع:
- ابن منظور ، لسان العرب ، المكتبة الشاملة الحديثة، https://rb.gy/knlfgs.
- د. صالح بن عبدالله بن حميد، نظرة الشريعة للمخاطر في المؤسسات المالية الإسلامية، https://rb.gy/aytjce
- د. سامي بن إبراهيم السويلم ، التحوط في التمويل الإسلامي ، ورقة مناسبات (10)، 2007م.
- د. إبراهيم عبد الحليم عبادة – د. عبد الله محمد ربابعة، أثر الغرر في عقود المشتقات المالية ، https://rb.gy/h6zpq8
- د. محمود فهد مهيدات، الآثار الاقتصادية لعقود الخيارات المالية ـ تقدير اقتصادي، https://rb.gy/3rvbyg
- د. عمر يوسف عبدالله عبابنة، النظم التمويلية والنقدية ودورها في الأزمة المالية المعاصرة تقدير اقتصادي إسلامي، جامع الكتب الإسلامية ، https://rb.gy/v8v6dj
- ابن كثير، تفسير القرآن العظيم ، (بيروت : دار المغرفة، 1402هـ).
- الإمام الشاطبي، الموافقات في أصول الأحكام، القاهرة : مكتبة محمد صبيح، غير مؤرخ).
- د. رفيق يونس المصري ، الجامع في أصول الربا، (دمشق : دار القلم ، 1991م) .
- محمد بن إسماعيل البخاري ، صحيح البخاري المحقق: محب الدين الخطيب، القاهرة : المكتبة السلفية، 1400 هـ).
- مسلم بن الحجاج النيسابوري، صحيح مسلم، المحققمحمد فؤاد عبدالباقي، (دمشق : دار إحياء الكتب العربية، 1374هـ).
- أحمد بن أبي بكر البوصيري، إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة ، (الرياض:دار الوطن ، 1420هـ)
- محمد ناصر الدين الألباني، إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، (بيروت: المكتب الإسلامي، 1399هـ).
- محمد عبد العاطي محمد عطية، تحريم بيع الغرر، موقع الالوكة الشرعية ، https://rb.gy/xoeg9m
- د. احمد عرفة ، التكييف الفقهي للتأمين التجاري ، مجلة الاقتصاد الإسلامي ، https://rb.gy/balcxi
- مجمع الفقه الاسلامي ، قرار رقم 9-9/2 ، https://rb.gy/g0pipt
- د. محمد بن حسن بن عبدالعزيزآل الشيخ، عقد التأمين التجاري للتعويض عن الضرر حقيقته وحكمه، (مجلة الجمعية الفقهية السعودية، العدد الثامن ، 2011 ) ، https://rb.gy/2pqchb
- صحيح ابن حبان ، ترجمة شعيب الأرنؤوط، (بيروت : مؤسسة الرسالة، 1414هـ). الدرر السنية، https://rb.gy/xyppfb
- أبوبكر خالد بن موسى نواصره، خطورة الربا، جامع الكتب الإسلامية، https://rb.gy/ktymtv
- هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية ، البحرين ، https://rb.gy/meaamt
https://amarabac.org/wp-content/uploads/2021/09/المخاطر-التمويلية-بين-الربا-والغرر.pdf
[1] كلية الاقتصاد والعلوم الإدارية / جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية / المملكة العربية السعودية / الرياض، tawfeig@hotmail.com